بحث مدونة التغيير الحضارى

الأحد، 6 يناير 2013

أو علمٍ يُنْتَفَعُ به !

منذ عدة سنوات كانت لدىَّ بعض الأفكار المشتركة مع مجموعةٍ من الشباب المخلص المتحمس من طلاب كليات الصيدلة بمدينتى "أسيوط" تدور حول مجموعةٍ من المشروعات الصغيرة , وكان أحد أهم المشروعات التى وقع عليها اختيارنا للبدء فيها هو مشروع استخلاص الزيوت الطبية والعطرية من النباتات باعتباره أحد المجالات التى تتمتع فيها مصر بميزةٍ نسبية ..
حيث توافر الأعشاب الطبية والعطرية بمناطق عدة بمصر مع وفرة العلماء والخبراء فى هذا المجال بالإضافة إلى سهولة تسويق منتجات مثل هذه المشروعات وضخامة السوق المحتاجة إليها والطالبة لها , وبخاصةٍ السوق الأوروبية القريبة جغرافياً من مصر , وكل ما ينقصنا هو الاهتمام بهذا المشروع بالقدر الكافى.



وقد وقع اختيار مجموعة العمل على إثنين من المتخصصين .. أحدهما يُعَدُّ أحد العلماء الأساتذة فى كلية الصيدلة بجامعة أسيوط , والآخر شاباً يعمل مدرساً بكلية الصيدلة بجامعة الأزهر بأسيوط أيضاً .. فقد كانا يملكان الخبرة العلمية والعملية فى هذا المجال , فأردنا أن نستفيد من علمهما وخبرتهما عن طريق تقديمهما الدعم اللازم للطلبة والخريجين الراغبين فى بدء مشروعهم الصغير فى هذا المجال الواعد.

ولكن .. كانت المفاجأة مذهلةً لنا للغاية ..
فلم نكن نتوقعها ولم تخطر ببالنا أصلاً فى ذلك الوقت ...

لقد رفضا التعاون بحجة أنها " سِرُّ الصَّنْعة " !!!
ورغم أن الحصول على المعلومات الأساسية اللازمة لبدء هذا المشروع متوافرة بشكلٍ عام , إلا أن هناك بعض التقنيات التى لا يعرفها إلا المتخصصون.

فى بادىء الأمر .. كنت أظن أن مثل هذا التصرف إنما يمثل بعض الحالات الفردية , ولكنى - للأسف الشديد - تبينتُ أنه سلوكٌ عامٌّ قد أصاب البشر , فقد وجدت نفس السلوك عند كل شخصٍ - إلا من رحم ربى - يملك علماً أو يُتقنُ حرفةً أو صنعةً ما .. فهو يضِنُّ بعلمه - الذى منحه الله إياه و أمَّنَهُ عليه - متعللاً أيضاً بأنه يحافظ على " سِرُّ الصَّنْعة " .. معتقداً بأن احتكارها وتوريثها لأولاده وذويه فقط .. يضمن لهم الحياة الكريمة واستمرار تدفق الرزق , دونما اعتبار ولا فكر ولا ثقافة تُذْكَر عن روح العمل الجماعى أو قيمة المكسب للجميع أو مفهوم النفع العام  أو أية رؤيةٍ لنهضة الأمة أو أدنى شعورٍ بأهمية رفعة البشرية وفريضة عمارة الأرض !!!

إن هذا السلوك - غير البشرى - لم يعد مقتصراً على الغرب أو الشرق , وإنما أصبحت النفوس شحيحةً بالخير حريصةً على الاستئثار به وحدها ..
إنه شُحٌ رهيبٌ عجيب اجتاح البشرية بما لم تعهده طوال تاريخها !

لقد أصبح الناس يعتقدون أن كل ما يمسكونه بأيديهم أو يقع تحت تصرفهم أو يعلمون أسراره إنما هو ملكيةٌ مطلقةٌ لهم .. متناسين أن المالك الحقيقى لكل شىءٍ هو الله .. حتى أنهم أصبحوا يبخلون على بعضهم البعض بما أنعم الله عليهم به .. حتى بالعلم !!! .. يضِنُّون بالعلم غير عابئين بحديث مُعَلِّمِ البشرية (صلى الله عليه وسلم) الذى قال فيه : " من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة مُلْجَمَاً بلجامٍ من نار " رواه أحمد , وأبو داوود.

واااأسفاه .. لقد نسينا أننا شركاء فى هذه الأرض .. نعيش جميعنا ونتعايش فيها .. نتنفس جميعنا من هوائها .. نأكل جميعنا مما تخرجه لنا .. نتقاسم جميعنا خيراتها .. فنستخدم جميعنا مواردها .. فنصنع بها مدنيتنا .. ونبنى بها حضارتنا .. فنرتقى بها وترتقى حياتنا .. فنحيا جميعنا فى سعادةٍ نتشاركها !

و
حتى إن تقبلنا هذا السلوك من الغرب .. فيمكن ذلك لعلمنا بأنهم يُعلون من قِيَم المصلحة الخاصة كما تعلو عندهم قيمة الانتماء لأنفسهم ولدولهم على حساب الآخرين بالإضافة إلى افتقادهم لثقافة عمارة الأرض التى هى جزءٌ أصيلٌ من عقيدتنا ..

إنه شىءٌ لم يفعله أجدادنا العظماء من المسلمين الأوائل على الإطلاق عندما شرعوا فى بناء الحضارة الإسلامية التى أنارت الدنيا فى زمنٍ عَمَّ فيه الظلام , حيث تعلموا العلم فنشروه فى كل مكانٍ وطئته أقدامهم , ولم يحتكروه - وقد كانوا على ذلك قادرين - ولم يبخلوا به على أىٍ ممن جاء يطلب العلم من أى مكان , وعلى رأسها دول أوروبا الغارقة فى الظلام فى ذلك الوقت , فعلموه للناس وبذلوه لخير البشرية كلها.

وبذلُ العلمِ - فى رأيى - بجانبيه ( النظرى و التطبيقى ) واجبٌ شرعى على كل من يملك علماً أو معرفةً أو خبرةً فى مجالٍ ما .. صحيحٌ أن العلم الأكاديمى هامٌ للغاية وضرورىٌ فى عملية التنظير العلمى فى شتى مجالات الحياة , إلا أن الإعتماد عليه وحده لا يعنى سوى الإصرار على النظر بعينٍ واحدة , ومن ثم عدم التمكن من رؤية كافة الجوانب بوضوح , فهو لا يكفى وحده من أجل شرح فكرةٍ أو توصيل معلومةٍ وتأصيلها فى الفكر وزرعها فى الوجدان , وهذا مما كان ينقصنا عندما كنا طلاباً فى كلية التجارة بموادها النظرية البحتة بأسلوب التلقين النظرى البحت.

وهنا يأتى دور العلم التجريبى ( التطبيقى ) ليشكل العين الأخرى الذى يمكننا الاعتماد عليها فى رؤية الصورة الكاملة لاستكمال مسيرة تعمير الكون التى خُلقنا من أجلها , بل إنه فى اعتقادى واجبٌ على كل من يشارك فى وضع النظريات العلمية - من أساتذة الجامعات والأكاديميين - أن يستقي هذه النظريات من التجارب العملية التى يمر بها أصحاب التجارب ولا يجوز لكل من يراعى الأمانة العلمية أن يعمل بمعزلٍ عنها ويضع نظرياته من فوق برجه العاجى.

وهى مسألةٌ تنطبق على كافة العلوم , ومن بينها - بالتأكيد - علم التسويق الذى أهتمُ به شخصياً , والذى قد أفردت له مدونتى الجديدة 
طريق التسويق لأنشر فيها تجاربى العملية التى عايشتها من أجل النفع العام قدر المستطاع , والله المستعان.

إخوتى فى الله ..


إنه الواجب المنوط به كلُ صاحبِ تجربةٍ تعَّلمَ منها فخرج بمجموعةٍ من الدروس التى إن شاركها مع الآخرين عمَّت الفائدة ووفر على الأمة - بأقطارها ومجتمعاتها المختلفة - الكثير فى رحلة إعادة بناء حضارتها ..


وإننا - كمسلمين - نحيا فى أرض الله كخلفاء فيها كما أراد لنا ..

نعيش فى رحاب قوله تعالى : " والأرض وضعها للأنام " ..


الأرض .. كل الأرض .. للأنام .. كل الأنام , كما قال إمامنا الشعراوى رحمه الله ..

نعمر هذه الأرض كجزءٍ من عقيدتنا الإسلامية العالمية ..

نعمرها أحياءً وأمواتا , ولا يكون ذلك إلا بثلاثة أشياء .. ( أحدها العلم ) كما أخبرنا مُعلمنا (صلى الله عليه وسلم) حين قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية  , أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم ..

فلسفتنا فى الحياة قول رسول البشرية ومُعلمها الأول (صلى الله عليه وسلم) الذى جاء رحمة للعالمين : " خير الناس .. أنفعهم للناس ". 

هناك 4 تعليقات:

  1. صدقت أخي محمد، وللعلم زكاة.
    موضوع في غاية الأهمية، ولعل ما جاء فيه هو الصواب على حد علمي، لكن المادية الطاغية على نفوسنا كبشر تأبى غير ذلك، وكل من له دراية في مجال يستأثر بها خوفا من أن ينافسه الاخر.
    شكرا على ما تبدله من نصح وطرح الخبرة في مجال التسويق، وجعل الله ذلك في ميزان حسناتك أخي محمد.
    مودتي

    ردحذف
  2. نعم أخى الحبيب أبو حسام ..
    إنها زكاة العلم التى غفل عنها معظم الناس فعطلوا بذلك فريضةً من الله ورسوله.

    بارك الله فيك أخى.

    ردحذف
  3. السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
    تحدثت عن موضوع أعاني منه بصفة شخصية في دراستي، و لكن ليسس بالخبرات العملية و إنما بالعلم نفسه أيضا ! فما يتردد على لسان الجميع عن السؤال عن معلومة "مقابل ماذا؟"

    و أصبح الحال بدلا من أن تبتدي من حيث انتهى الآخرون ... تضطر للبداية من الصفر لأن نقطة انتهاء الآخر حكر له وحده و ثروة ثمينة لا يفرط فيها بالرغم من أنها ليست ملكه .

    جزاك الله كل الخير أ/محمد ، موضوع مهم و حيوي و أتمنى من الله أن يعي أهميته كل صاحب خبرة و علم.

    ردحذف
  4. مع الأسف الشديد .. فقد صادفت فى حياتى الكثيرين من أمثال هؤلاء , ولكنى أحياناً عندما أنفرد بنفسى أحاول أن أنظر من وجهة نظر هؤلاء وكيف أن نظرتهم للأمر ضيقة للغاية ..

    فهو ينظر للأمر بتفكيرٍ سطحى للغاية لا يعدو أن يكون ضمن قوله تعالى " إنما هى حياتنا الدنيا نموت ونحيا " , وكأنه لا فارق بينهم وبين غير المسلمين الذين تقدموا فى العلم فظنوا أنه ملكٌ لهم وحدهم وأنه لا بد من الاستفادة منه قدر المستطاع - مادياً على وجه الخصوص - وكأنه بقرةً يحلبون لبنها حتى تقضى.

    سلوكٌ غير إسلامى ينتهجه كثيرٌ من المسلمين !

    أتمنى على الله أن يعود علماء المسلمين إلى نبع دينهم الصافى ..
    أن يراجعوا إيمانهم فى هذه المسألة ..
    وليعلموا أنما الأجر الحقيقى ليس من البشر ..
    وليجعلوا أجرهم على معطى الأجر سبحانه ..

    وليحذروا أن يكونوا ممن أحبط الله أعمالهم وقال فيهم : " أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء .. حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .. ووجد الله عنده )
    ذلك لأنهم عملوا لدارٍ فانية , ونسوا أن العمل الحقيقى يكون للدار الباقية.

    بارك الله فيك أختى ريهام.

    ردحذف

أُمَّتك فى أشد الحاجة إليك ..
فلا تبخل على نفسك بدورٍ فى نهضتها